أ. عبد القادر سعيد
بعد أن تناقلنا أخبارا عن حالته الصحية و أنه في تحسن وفي راحة أفضل من أيام سبقت، وكانت عائلته الكريمة تطالعنا بين المكالمة والأخرى بأنباء تريحنا وتفرحنا، إلى أن جاء نعيه ووصل خبر وفاة الأستاذ [الدكتور منصور بن لرنب (رحمه الله)] صبيحة 12 جويلية 2009، خبر لا أقول أننا كنا نستبعده أو نهرب من سماعه، ولكننا كنا نرى أن الدكتور الفقيد مازلنا نحتاجه ومازلنا نود أن نجالسه ونحضر إلى محاضراته، و نحن الذين مازال فينا عطش وفقر معرفي نود أن يخففه الفقيد الدكتور.
أقول هذا وأنا متأكد أن الكثير يقول أن القضاء و الأجل لا يمكن أن ينتظر ولا يتوقف عند التمني، ولكني أستدرك قائلا أن الدكتور ين لرنب لم يكن سهلا علينا أن يصلنا نعيه ونتقبل الأمر ببساطة و بشكل طبيعي، ذلك لأن الفقيد كما يذكر الجميع قامة من قامات العلوم السياسية في الجزائر، بل وإنه أحد أركان هذا التخصص في جامعة الجزائر، وكان أبا لكل طالب عرفه في القسم و كان معينا للجميع أساتذة وطلبة، و كل من مر على قسم العلوم السياسية في جامعة الجزائر يشهد بذلك.
الأستاذ الدكتور منصور بن لرنب قبل أن أتحدث عن علمه وعن مسيرته أو أن أذكر نقطة هامة وجوهرية في طباع الفقيد، وهي أنه كان ن أولئك الذين لم يحيدوا عن الموقف والفكرة و النهج، فقد كان ثابتا لم يغير و لم يبدل، و أقصد هنا أنه كان على فكرة ونهج وموقف:
فكره جزائري الإنتماء: أي أنه آمن رحمه الله بأن في الجزائر خير كبير –رغم أنها لم تمنحه مثلما منحها- في شيوخها في علمائها ومفكريها في طلبتها في شبابها و حتى في ضوضائها و حراك المتزن منه و غير المتزن.
نهجه الإسلامي المتبصر: فقد رأى أن فهم الإسلام بصورته الصحيحة سيكون العون الأول و الحجر الأساس في تدارك مراحل التخلف وأخطاء الماضي و تجنب عثراته، منطلقا أن الوحدة الإسلامية قبل أن تكون شعارا وجب أن تكون واقعا نعيشه لا كلمات و ندوات لا تعطي الشيء المأمول.
موقفه الممانع والمقاوم: حقيقة قد يستغرب الكثير هذه الفكرة، ولكن بقربي من الفقيد عرفت فيه شدة الدفاع على موقفه المدافع عن كل أشكال الممانعة سواء في شقه السياسي أو الثقافي أو الجهادي ، فقد كان يؤمن (رحمه الله) أن الأرض العربية المغتصبة فلسطين لا تعود إلا بالمقاومة، وأن الخصوصية الحضارية ثقافة وإيمان وموقف لا يليق بعارف و مطلع على سنن التاريخ أن يقف عكس هذا الموقف.
المرحوم الأستاذ الدكتور منصور بن لرنب رحل عن هذه الدنيا ولم يترك خلفه الأبناء لأنه بكل بساطة لم يرتبط ولم يعش واقعية أو رمزية الأبوة، إلا أنه ترك جيلا من الطلبة هم أبناؤه و أحفاده و هم أهله وعشيرته، وأحسب نفسي من هذه الفئة التي تشرفت وسأبقى متشرفا طول عمري أني كنت على مقربة من الفقيد الذي أعطني العون و المساعدة وأعطاني حنان الأب على ابنه الذي يستحيل أن يبخل عنه بشيء إلا إذا كان ضد مصلحته.
لقد كان محبا لكل رموز المعرفة الصحيحة مطلعا على فكرهم الذي يتفجر بخصوصياتنا الحضارية و الذي يدافع عنها كان محبا: لحامد عبد لله ربيع، علي شريعتي، عبد الوهاب المسيري، محمد حسين فضل الله، مالك بن نبي، جمال حمدان… وغيرهم ممن أفنوا حياتهم دفاعا عن الحضارة الإسلامية بكل قوتها و مميزاتها وخصائصها التي تنفرد بها عن غيرها من الحضارات الإنسانية. كان مدافعا عن رمز من رموز الوطنية في تاريخ الجزائر الحديث مصالي الحاج، وأذكر أنه في أول نشاط قمنا به بعد تأسيس (نادي ابن خلدون للفكر السياسي) هي أن تصادفت مع ذكرى وافته فأعطانا ما لديه عن هذا الرمز وعن أساب التهميش له التي تمثل نقطة عرجاء في تاريخ الجزائر الثوري.
منصور بن لرنب أستاذ جامعي لكنه من طينة مغايرة لكل زملائه، فقد كان مضحيا بوقته بمشاغله وبمشاريعه العلمية، خدمة للطلبة و الأساتذة خصوصا بعد توليه لرئاسة المجلس العلمي لكلية العلوم السياسية و الإعلام، فقد كان يناوب في مكتبه من الساعة السابعة صباحا إلى غاية الساعة الرابعة و النصف مساء بدون انقطاع، متحملا في ذلك كل العناء والتعب و الإرهاق الذي ضاعف من مرضه في الفترة الأخيرة، يدخل المكتب ورغم انه ألصق على بابه أن الاستقبال يوم الاثنين صباحا إلا أنه كان لا يملك أن يرد أي أحد إذا ما دق بابه طالبا كان أو أستاذا، وهو ما أصبح يتداول بين الجميع أن الدكتور هو الوحيد في الإدارة الجزائرية الذي يستقبل كل أيام الأسبوع، مناقشاته رغم أن الكثير كان ينتقده تارة عن الإطالة وتارة عن الخروج على جو النقاش العام للمذكرة أو الرسالة إلا أن بصماته في المناقشات سنفتقدها لا محالة، وحتى بصماته في ما كان يشرف عليه من مذكرات ماجستير وأطروحات دكتوراه سيغيب بكل تأكيد، وأذكر هنا أن الفقيد بعدما أشرف علي في الماجستير حاولت أن أواصل معه في الدكتوراه –في أيام رمضان الماضي- إلا أنه تمنع بسبب المرض خصوصا وانه كان قد تعهد معي في فترة سابقة أن نواصل المشوار العلمي معا، إلا أن المرض حال دون تحقيق هذه الأمنية لكلينا.
الحديث عن الأستاذ الدكتور منصور بن لرنب يطول ومواقفه و ذكرياتنا معه تطول ولا تكفيها أوراق ولا كراسات، إلا أنني في الأخير أود القول لروح الفقيد الذي تركنا في هذا اليوم:
سيفقتدك الجميع من أحبك ومن بغضك ..
سيبكيك طلبتك لفقدهم لأستاذ منضبط لا يسمح ولا يتساهل في التنظيم وفي الجدية..
سنبكيك قاعات التدريس بكلية العلوم السياسية وتبكيك مدرجاتها..
ستبكيك جدران مكتب رئاسة المجلس ..
سيفتقدك حارس المدخل الذي يعرف أنها السابعة بدخولك و تسليمك عليه..
خسرتك الجامعة الجزائرية كرجل أعطى من عمره السنين ومن راحته الكثير خدمة للعلم وطلابه..
وخسرك الجميع لأنهم لن يجدوا شخصا بتواضعك و مهنيتك و مرونتك في العمل و قضاء مشاغلهم..
يا دكتورنا و فقيدنا عزاؤنا أنك تركت من أمثالك – على قلتهم- من ينير درب الأجيال القادمة ويوضح لها المسلك الصحيح من الزائف، ويغرس فيها ويعلمها نفس الفكرة و الموقف والنهج.
أخيرا رحمك الله وأسكنك في جنة الفردوس وجمعك مع النبيين والصديقين و الشهداء، آمـــين .